فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

وبعد أن وصف كرامتهم عليه وأثنى عليهم وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية فاجأ بالوعيد الشديد وأنذر بعذاب جهنم من ادعى منهم أنه إله وذلك على سبيل العرض والتمثيل مع علمه بأنه لا يكون كقوله: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد.
وقرأ الجمهور {نجزيه} بفتح النون.
وقرأ أبو عبد الرحمن المقري بضمها أراد نجزئه بالهمز من أجزائي كذا كفاني، ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كذلك أي مثل هذا الجزاء {نجزي الظالمين} وهم الكافرون والواضعون الشيء في غير موضعه، وأداة الشرط تدخل على الممكن والممتنع نحو قوله: {لئن أشركت} {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} هذا استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة، ودلالة على تنزيهه عن الشريك، وتوكيد لما تقدم من أدلة التوحيد، ورد على عبدة الأوثان من حيث إنّ الإله القادر على هذه المخلوقات المتصرف فيها التصرف العجيب، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع والرؤية هنا من رؤية القلب.
وقيل: من رؤية البصر وذلك على الاختلاف في الرتق والفتق.
وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن ألم يَرَ بغير واو العطف والجمهور {أو لم} بالواو.
{كانتا} قال الزجاج: السموات جمع أريد به الواحد، ولهذا قال: {كانتا رتقًا} لأنه أراد السماء والأرض، ومنه أن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا جعل السموات نوعًا والأرضين نوعًا، فأخبر عن النوعين كما أخبر عن اثنين كما تقول: أصلحت بين القوم ومر بنا غنمان أسودان لقطيعي غنم.
وقال الحوفي: قال: {كانتا رتقًا} والسموات جمع لأنه أراد الصنفين، ومنه قول الأسود بن يعفر:
إن المنية والحتوف كلاهما ** يوفي المحارم يرقبان سوادي

لأنه أراد النوعين.
وقال أبو البقاء: الضمير يعود على الجنسين.
وقال الزمخشري: وإنما قال: {كانتا} دون كنّ لأن المراد جماعة {السموات} وجماعة {الأرض} ونحوه قولهم: لقاحان سوداوان إن أراد جماعتان فعل في المضمر ما فعل في المظهر.
وقال ابن عطية: وقال: {كانتا} من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شييم:
ألم يحزنك أن جبال قيس ** وتغلب قد تباينت انقطاعا

قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: كانتا شيئًا واحدًا ففصل الله بينهما بالهواء.
وقال كعب: خلق الله السموات والأرض بعضها على بعض ثم خلق ريحًا بوسطها ففتحها بها وجعل السموات سبعًا والأرضين سبعًا.
وقال مجاهد والسدّي وأبو صالح: كانت السموات والأرض مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضون كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبعًا.
وقالت فرقة: السموات والأرض رتق بالظلمة وفتقها الله بالضوء.
وقالت فرقة: السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق {ففتقناهما} بالمطر والنبات كما قال: {والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع} قال ابن عطية: وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة للمحسوس بين، ويناسب قوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} أي من الماء الذي أوجده الفتق انتهى.
وعلى هذين القولين تكون الرؤية من البصر وعلى ما قبلهما من رؤية القلب، وجاء تقريرهم بذلك لأنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، ولأن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلابد للتباين دون التلاصق من مخصص، وهو الله سبحانه وقرأ الجمهور {رتْقًا} بسكون التاء وهو مصدر يوصف به كزور وعدل فوقع خبرًا للمثنى.
وقرأ الحسن وزيد بن على وأبو حيوة وعيسى {رتقًا} بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالقبض والنفض، فكان قياسه أن يبني ليطابق الخبر الاسم.
فقال الزمخشري: هو على تقدير موصوف أي {كانتا} شيئًا {رتقًا}.
وقال أبو الفضل الرازي: الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسمًا بمعنى المفعول والساكن مصدر، أو قد يكونان مصدرين لَكِن المتحرك أولى بأن يكون في معنى المفعول لَكِن هنا الأولى أن يكونا مصدرين فأقيم كل واحد منهما مقام المفعولين، ألا ترى أنه قال: {كانتا رتقًا} فلو جعلت أحدهما اسمًا لوجب أن تثنيه فلما قال: {رتقًا} كان في الوجهين كرجل عدل ورجلين عدل وقوم عدل انتهى.
{وجعلنا} إن تعدت لواحد كانت بمعنى وخلقنا من الماء كل حيوان أي مادته النطفة قاله قطرب وجماعة أو لما كان قوامه الماء المشروب وكان محتاجًا إليه لا يصبر عنه جعل مخلوقًا منه كقوله: {خلق الإنسان من عجل} قاله الكلبي وغيره، وتكون الحياة على هذا حقيقة ويكون كل شيء عامًا مخصوصًا إذ خرج منه الملائكة والجن وليسوا مخلوقين من نطفة ولا محتاجين للماء.
وقال قتادة: أي خلقنا كل نام من الماء فيدخل فيه النبات والمعدن، وتكون الحياة فيهما مجازًا أو عبر بالحياة عن القدر المشترك بينهما وبين الحيوان وهو النموّ ويكون أيضًا على هذا عامًا مخصوصًا، وإن تعدّت {جعلنا} لاثنين فالمعنى صيرنا {كل شيء حي} بسبب من الماء لابد له منه.
وقرأ الجمهور {حي} بالخفض صفة لشيء.
وقرأ حميد حيًا بالنصب مفعولًا ثانيًا لجعلنا، والجار والمجرور لغو أي ليس مفعولًا ثانيًا لـ: {جعلنا} {أفلا يؤمنون} استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم، والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها ويتركوا طريقة الشرك، وأطلق الإيمان على سببه وقد انتظمت هذه الآية دليلين من دلائل التوحيد وهي من الأدلة السماوية والأرضية.
ثم ذكر دليلًا آخر من الدلائل الأرضية فقال: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} وتقدم شرح نظير هذه الجملة في سورة النحل {وجعلنا فيها فجاجًا سبلًا} وهذا دليل رابع من الدلائل الأرضية، والظاهر أن الضمير في {فيها} عائد على الأرض.
وقيل يعود على الرواسي، وجاء هنا تقديم {فجاجًا} على قوله: {سبلًا} وفي سورة نوح {لتسلكوا منها سبلًا فجاجًا} فقال الزمخشري: وهي يعني {فجاجًا} صفة ولَكِن جعلت حالًا كقوله:
لمية موحشًا طلل

يعني أنها حال من سبل وهي نكرة، فلو تأخر {فجاجًا} لكان صفة كما في تلك الآية ولَكِن تقدم فانتصب على الحال قال: فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قلت: وجهان أحدهما إعلام بأنه جعل فيها طرقًا واسعة، والثاني بأنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة انتهى.
يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفًا به حالة الإخبار عنه، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه، ألا ترى أنه يقال: مررت بوحشي القاتل حمزة، فحالة المرور لم يكن قائمًا به قتل حمزة، وأما الحال فهي هيئة ما تخبر عنه حالة لإخبار {لعلهم يهتدون} في مسالكهم وتصرّفهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ} أي من الملائكة الكلامَ فيهم وفي كونهم بمعزل مما قالوا في حقهم {إِنّى إله مّن دُونِهِ} متجاوزٌ إياه تعالى: {فَذَلِكَ} الذي فُرض قوله فرضَ مُحال {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} كسائر المجرمين ولا يغني عنهم ما ذُكر من صفاتهم السنية وأفعالِهم المَرْضية، وفيه من الدِلالة على قوة ملكوتِه تعالى وعزة جبروتِه واستحالةِ كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرةُ ما لا يخفى {كذلك نَجْزِى الظالمين} مصدرٌ تشبيهيٌّ مؤكد لمضمون ما قبله أي مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيعِ نجزي الذين يضعون الأشياءَ في غير مواضعها ويتعدَّوْن أطوارَهم، والقصرُ المستفادُ من التقديم معتبرٌ بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لا جزاءً أنقصَ منه.
{أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ} تجهيلٌ لهم بتقصيرهم في التدبُّر في الآيات التكوينيةِ الدالةِ على استقلاله تعالى بالألوهية وكونِ جميع ما سواه مقهورًا تحت ملكوتِه، والهمزةُ للإنكار والواو للعطف على مقدّر وقرئ بغير واو والرؤيةُ قلبيةٌ، أي ألم يتفكروا ولم يعلموا {أَنَّ السموات والأرض كَانَتَا} أي جماعتا السمواتِ والأرضين كما في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} {رَتْقًا} الرتْق الضمُّ والالتحامُ والمعنى إما على حذف المضافِ أو هو بمعنى المفعولِ أي كانتا ذواتيْ رتْقٍ أو مرتوقتين، وقرئ {رتَقًا} أي شيئًا رتقًا أي مرتوقًا {ففتقناهما} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عكرمة والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير: كانتا شيئًا واحدًا ملتزمين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقرّ الأرض، وقال كعب: خلق الله تعالى السمواتِ والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحًا فتوسطتها ففتقتْها، وعن الحسن: خلق الله تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفِهْر عليها دخانٌ ملتزق بها ثم أصعدَ الدخانَ وخلق منه السمواتِ وأمسك الفِهرَ في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا ففتقناهما} وقال مجاهد والسدي: كانت السمواتُ مُرتتِقَةً طبقةً واحدة ففتقها فجعلها سبعَ سموات وكذلك الأرض كانت مرتتِقةً طبقةً واحدةً ففتقها فجعلها سبعَ أرضين، وقال ابن عباس في رواية عطاء وعليه أكثرُ المفسرين: إن السمواتِ كانت رتْقًا مستويةً صُلبة لا تمطر والأرض رتْقًا لا تُنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، فيكون المراد بالسموات السماء الدنيا والجمعُ باعتبار الآفاقِ أو السمواتِ جميعًا على أن لها مدخلًا في الأمطار، وعلمُ الكفرةِ الرتْقَ والفتقَ بهذا المعنى مما لا سِترةَ به وأما بالمعاني الأول فهم وإن لم يعلموهما لَكِنهم متمكنون من علمهما إما بطريق النظرِ والتفكر، فإن الفتقَ عارضٌ مفتقرٌ إلى مؤثر قديم وإما بالاستفسار من العلماء ومطالعةِ الكتب.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شيء حَىّ} أي خلقنا من الماء كلَّ حيوان كقوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَاء} وذلك لأنه من أعظم موادِّه أو لفرْط احتياجِه إليه وانتفاعِه به، أو صيرنا كلَّ شيء حي من الماء أي بسبب منه لابد له من ذلك، وتقديمُ المفعول الثاني للاهتمام به لا لمجرد أن المفعولين في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ وحقُّ الخبر عند كونه ظرفًا أن يتقدم على المبتدأ فإن ذلك مصحِّحٌ محْضٌ لا مرجحٌ، وقرئ {حيًّا} على أنه صفةُ كلَّ أو مفعولٌ ثانٍ والظرفُ كما في الوجه الأول قُدّم على المفعول للاهتمام به والتشويقِ إلى المؤخر {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} إنكار لعدم إيمانِهم بالله وحده مع ظهور ما يوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفسيةِ الدالةِ على تفرده عز وجل بالألوهية وعلى كون ما سواه من مخلوقاته مقهورةً تحت ملكوته وقدرتِه، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكارُ السابق أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون.
{وَجَعَلْنَا في الأرض رَوَاسِىَ} أي جبالًا ثوابتَ جمعُ راسية من رسا الشيءُ إذا ثبت ورسَخ، ووصفُ جمعِ المذكر بجمع المؤنثِ في غير العقلاءِ مما لا ريب في صحته كقوله تعالى: {أَشْهُرٌ معلومات} و{أَيَّامًا معدودات} {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} أي كراهةَ أن تتحرك وتضطربَ بهم أو لئلا تميدَ بهم بحذف اللام ولا، لعدم الإلباس {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الأرض وتكريرُ الفعل لاختلاف المجعولين ولتوفية مقام الامتنان حقَّه أو في الرواسي لأنها المحتاجةُ إلى الطرق {فِجَاجًا} مسالكَ واسعةً وإنما قدم على قوله تعالى: {سُبُلًا} وهى وصفٌ له ليصير حالًا فيفيد أنه تعالى حين خلقها خلقَها كذلك، أو ليبدل منها سبلًا فيدل ضمنًا على أنه تعالى خلقها ووسّعها للسابلة مع ما فيه من التوكيد {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي إلى مصالحهم ومَهمّاتهم. اهـ.